الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ) (رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني).
لقد كانت الغفلة كما تلحظ في هذا الحديث الشريف حالة طارئة، وسحابة عابرة سرعان ما تنقشع لتشرق على إثر ذلك شمس اليقظة، إلا أنها غدت في زماننا أصلاً أصيلاً ووباء قد استشرى، ومصيبة عمت بها البلوى، وداء قلما ينجو منه أحد.
وقد أصبحنا نحيا حياة الغفلة، فبين كل غفلة وغفلة غفلة، وعامة الناس في عامة أمورهم التي تتعلق بمستقبلهم الحقيقي الأخروي السرمدي لا تلفينهم إلا غافلين، يقول الله -تعالى-: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:6-7)، والناس في غفلاتهم ورحى المنية تطحن.
وما أراك أخي إلا جازمًا معي أن لنا حظ ونصيب من قوله -تعالى-: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (الأنبياء:1-2).
ولله در القائل: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا"، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ . وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ . وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ . لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق:19-22).
عقاب وعاقبة الغافلين... قلب ناظريك أخي في كتاب الله لترى كيف كان عاقبة الغافلين، قال الله -تعالى- عن فرعون وآله الغافلين المغفلين: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ)، بماذا ولماذا؟ (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف:136).
وقال عمن كان على شاكلتهم في الغواية والضلالة وأوحال الغفلة: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف:146).
ومن رحمته بنا أن نهانا -سبحانه- عن الغفلة وحذرنا منها، وتوعدنا عليها قائلاً: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس:7-، وقال: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف:205).
إن العبادة والذكر واليقظة وقت الغفلة وفي أزمنة التيه لها ثقل ووزن وشأن عند الله -تعالى-، يقول -عليه الصلاة والسلام-: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) (رواه مسلم).
صور الغفلة:
للغفلة أخي الكريم صور بعضها أقبح من بعض إلا أن أقبحها على الإطلاق أن يغفل المرء عن مبدأ خلقه ومنتهاه، والغاية التي خلق لأجلها، شأنه في ذلك كشأن شاعر الغفلة الذي جعل يهذي قائلاً:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ولقد أبصرت قدامي طريق فمشيت
وسـأبـقى سائرًا إن شئت هـذا أو أبـيـت لـسـت أدري... لـسـت أدري
وإذا كان هذا شأن الرعاع الغافلين؛ فللمؤمن شأن يغاير شأنهم، وكيف لا وهو الذي يقرأ ويطالع في كتاب ربه الغاية والمبدأ والمنتهى؟! يقول الله -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)، فتلك هي الغاية.
وقال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون:12)، وذلك هو المبدأ.
أما المنتهى: فتجده في قوله -تعالى-: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ . قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ . وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ . وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ . وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الزمر:71-75).
من الصور الذميمة للغفلة: غفلتنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد سئل حذيفة -رضي الله عنه- عن ميت الأحياء -وهي صورة من أحط صور الغفلة- فقال: "هو الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه، ولا حتى بقلبه"، وفي الحديث: (وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) (رواه مسلم).
ومن صور الغفلة: غفلتنا عن طلب العلم -بصدق-، وعن الدعوة إلى الله -بجد-، وعن النظر في ملكوت السماوات والأرض -بتأمل-، وعن بر الوالدين وصلة الأرحام، وهموم الأمة، وعن...
ولو ذهبنا نفصل ونستقصي هاتيك الصور لتجرد الموقع لذلك، ولربما كانت التتمة في مواقع أخر.
إلا أننا نقفز إلى آخر ورقة في هذا السجل الحافل، وقد تعرضت لذكر صورة من أسوأ صور الغفلة، ألا وهي: الغفلة عن ذكر الله بقلوبنا وأرواحنا وألسنتنا، ويكمن سوء تلك الصور وبشاعتها بما يزيد على أخواتها أن الذكر مبذول لكل الناس لا يحتاج إلى كثير كلفة، ومع ذلك فأمة منا لا يستهان بها تفشل حتى في هذا المشعر السهل الهين اللين الذلول المنقاد.
ولعل السبب الرئيسي في غفلتنا عن الذكر هو غفلتنا إخوتاه عن الأرباح الخيالية التي تنجم عن هذا المشروع الضخم، وإن تواطأ القلب واللسان على ذكر الله لهو أعظم نعيم، يتنعم في العاجل والآجل؛ فما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله.
وما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا الآخرة إلا بعفوه، ولا الجنة إلا برؤيته، فلا يشغلنك أخي الرزق عن الرزاق، ولا الخلق عن الخلاق، ولا النعم عن المنعم، وإذا كان الكون بسمائه وأرضه وبره وبحره، وجبله وسهله، يسبح بحمد الله؛ فكيف نغفل نحن معاشر المكلفين عن هذه المنظومة الإيمانية وتلك الثلة الذاكرة، يقول -عليه الصلاة والسلام-: (مَا تَسْتَقِلُّ الشَّمْسُ فَيَبْقى شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الله إِلاَّ سَبَّحَ الله بِحَمْدِهِ إِلاَّ مَا كانَ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَأَغْبِيَاءِ بَنِي آدَمَ) (أخرجه أبو نعيم في الحلية، وحسنه الألباني)، وقال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (النور:41)، فسبحان من سبحت له السماوات وأفلاكها، والأرضون وأملاكها، والبحار وحيتانها (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء:44).
الشمس والقمر من أنوار حكمته والبر والبحر فيض من عطاياه
الـوحش مجـده والـكـون سبـحـه والموج كـبره والحـوت نـاجـاه
والنمل تحت الصخر الصم قدسه والـنحل يهتف حمدًا في خلاياه
والناس يعصونه جهرًا فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه
كفانا غفلة وهلموا إلى يقظة عاجلة فرب شروق بلا غروب، ورب ليل بلا نهار، وكم من رجل أصبح من أهل الدنيا وأمسى من أهل الآخرة.
كفانا غفلة وإلا فإن الأمر والله لجد خطير.
أمــا والـلـه لـو عـلـم الأنــام لما خلقوا لما غفلوا وناموا
لـقـد خـلقـوا لـما لو أبصرته عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
مـمـات ثـم قـبـر ثم نـشر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام
ليوم الحشر قد عملت رجال فصلوا من مخافته وصـاموا
ونحـن إن أمـرنا أو نـهـيـنا كـأهـل الـكـهـف أيـقـاظ نيام
أيها الأحبة:
طال ليل الغفلة وضجت أسرة الكون من كثرة نومنا وطل سباتنا، وضجيج شخيرنا، وقد آن الأوان أن نستيقظ.
فتنبهوا... !
تـــنـبـهـوا يــا رقـــود إلــى مــتـى الجــمـود
فــهـــذه الـدار تــبـلـى ومـا عــلـيـها يــبـيــد
الـخـيـر فـيـهـا قـلـيـل والــشــر فيها عـتـيـد
والعـمـر يـنقص فيها وســيــئـات تــــزيـــد
فاستكثروا الزاد منها إن الـطــريق بعـــيــد
اللهم إنا نعوذ بك من القسوة والغفلة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من موقع صوت السلف